CINEMA

مهرجان العراق للفيلم القصير

 

هذا المهرجان كان قد وضع السينما العراقية، كل السينما في خمس أيام مشحونة بالنشوة والتفاؤل والشعور بالقوة المتزايدة وقدمها للعالم كمفاجأة ما زالت أصدائها تتردد لحد هذه اللحظة، أفلام عراقية صنعت في مختلف انحاء العراق والعالم، ومخرجين عراقين من مختلف الاجيال وبمختلف الميول والاتجاهات والخبرات، وبحوث حول وضع السينما العراقية واستشراف مستقبلها من خلال نظرياتها، وتكريم الراواد الأوائل، وتوثيق لتاريخ السينما العراقية وأهم أحداثها من خلال الفوتوغراف.

ثم زارت الافلام الفائزة العديد من عواصم العالم ومدنه الكبيرة، لتنقل رسالة باسم العراقيين مفادها أن العراق ليس ذلك البلد الذي يخسر أهله في جميع التحديات كما يحدث في السياسة والحرب، لأن العراق أكبر من أن يكون ميداناً للسياسين الفاشلين والقادة العسكرين المهزومين فقط؛ أنه بلد وشعب صاغ الحضارات منذ أطل الأنسان برأسه على العالم.

أراد مهرجاننا أن يعاود تذكير العالم بأهمية العراق الذي علم البشرية قبل ستة آلاف عام الكتابة والشعر والرياضيات والفلك، ولكي نستأنف دور آبائنا الذين علموا الشعوب المجاورة قبل أكثر من مئة عام فنون الرسم والنحت والفوتوغراف والدراما والشعر المعاصر والرواية والخط العربي ومازالو يتفوقون على الجميع بتلك الفنون والآداب والمعارف.

وعندما صار العراق ميداناً للتقاتل بين قوى الظلام كان لابد أن يكون مهرجاننا الضحية الأولى حيث استهدفنا الأشرار بالسيارات المفخخة والرسائل الملغومة وعشرات التهديدات لكل من اسهم بوجود هذا المهرجان – الرسالة؛ فذهبنا بالمهرجان ومعانيه لوراء حدود المجزرة لنسمح للرسالة بالمرور الى غايتها.

السينما هي مادة المهرجان والثقافة هي محاوره لكنما يبقى الوطن الآمن المسالم هو رسالة كل الأنشطة الثقافية وهدفها، وهنا يأتي شكرنا بأسم العراق وبأسم المستقبل لكل من ساعد ويساعد في دعم الثقافة وتنمية دورها السلمي في اعادة بناء العراق.

العراق هذا الوطن الذي ينزلق من بين اصابعنا يومياً ولا نمتلك الا السينما وبعض الفنون لجعل انزلاقه أبطاء لعل المعجزات تأتي من جديد وتساعد على انقاذه من بين فكي الساسة والمسلحين فنستعيده من الضياع.

 

 

 

قراءة في سياكلوجيا الغياب

فيلم (فايروس) لجمال أمين

نزار الراوي

 

يذكرني فيلم (فايروس) للمخرج العراقي جمال أمين بتعليق الاعلامي البريطاني جيرمي باكسمان الذي ادار الندوة التي استضافتني بها جامعة كامبردج قبل عامين للحديث مباشرة الى الجمهور الانكليزي عن اشكاليات العمل الثقافي في العراق عندما قال-( منذ أعوام ونحن نستمع عن موضوع العراق ومشاكله من المصادر الأكثر بعداً عن الوضوح والدقة والواقعية؛ الجنرالات الأمريكان وقادة السياسة العراقية هم بحق أسواء من يتحدث عن مشاكل العراق) يبدو أن جمال أمين المخرج غير التقليدي يتفق مع هذه المقولة غير التقليدية والتي تنم عن رغبة حقيقة بالاطلاع على اصول الاشياء وجذور المتغيرات لا على ظواهرها المصدرة للاعلام وسائل الاتصال التقليدية، حيث لجاء لطرح المشكلات الكبرى التي تكتنف الوطن من خلال احاديث تكاد تكون يومية لشخصيات عادية ربما تكون غير مدركة لكونها بتجاذبها لاطراف ذلك الحديث تصنه واحدة من أهم وثائق المستقبل.

شاهدت فيلم فايروس من زواية أخرى غير التي يطالبنا بها التلقي المتعجل للفيلم، لم أتعاطف مع فكرة السيارة- الوطن بل حاولت قراءة الفيلم من حيث هو وثيقة تأريخية لحوار مهم حول الوطن من قبل اناس ربما غير مهمين تاريخياً، أنا أزعم ان الحوار مهم لأنه حوار يومي تقليدي في مقاهي ومحال وأزقة قرى ومدن العراق وهو دائر بين الجميع منذ مدة وقد توقف الآن بسبب عدم جدواه لدى الجميع بلا استثناء، أقصد أنه تلاشى على أعتاب النتغيرات الكبرى الأكثر واقعية التي يمر بها الوطن.

الأهم من الحوار هو الشخصيات الأربع التي تبدو للوهلة الأولى منتمية بوضوح لمرجعياتها القومية والطائفية لكنها تمثل بالنسبة لي عمقاً سايكولجياً أكثر أهمية وواقعية، يشير الى عجز المواطنة العراقية بمختلف اطيافها عن بلورة مفهوم ثقافي للهوية الوطنية، مفهوم يقبل التطبيق والتعايش، ولعل دعوة (جيا) الكردي كانت صريحة أكثر مما يحتمل حتى (جلال) الشيعي- الائتلافي ان صح التعبير فهو مؤيد حتى النخاع للائتلاف الشيعي الحاكم بتشكيلته غير المنسجمة حتى مع ذاتها، فجلال يحاول ان يترجم الرغبة الكردية الصريحة بالانفصال على انها حق طبيعي للحياة بكرامة واستقلالية نسبية داخل حدود الوطن الواحد المرفوض اساسا من قبل جيا، أما (محمد) السني –المدافع عن البعث- بحجة انه ليس بكفر فلم يفهم قط فكرة جيا وحاول ان يهون على نفسه بان الاشكالية هي اشكالية علم اصفر او علم احمر يتطاول أحدهما على الآخر بضعة أشبار، أما (مصطفى) الشيعي المتغرطرس الذي طرد اصدقائه من سيارته مقابل نشوة حزن مزيف لم يعلق على طروحات جيا كما علق متهماً على تهكمات (فرقد) الشيعي- العلماني بانه قسم الوطن وسارع باتهامه بمنتهى الجدية والتعاسة ببيع الوطن والمواطنة مع أن الرغبة في المزاح والاستفزاز الايجابي كانتا باديتين على فرقد حينما فعلها، وأقول ان احزانه (مصطفى) مزيفة لانه ادعى عدم الاستماع للاغاني في حين تمايل طربا عندما ابتدأت الرحلة على انغام ام كلثوم وردد معها ترديد الحافظين، لكنه سرعان ما تقوقع داخل منظومة دينية طاردة للاخر حالما شعر انه ابتعد عن المنطلق بما يكفي لتهديد الاخرين بنفيهم خارج السيارة التي لا يملكونها اصلاً.

لعل العقدة الحقيقة بالنسبة لي تبدو بيد فرقد الذي نظنه للوهلة الأولى ممثلا وناطقاً باسم الاعتدال والمدنية خاصةً عندما دعا للاحتكام الى التصويت حلاً للنزاع الأول حول الشريط الذي يرغبون أو لا يرغبون بسماعه، هذا المعتدل لم يافجئني بكونه لا يرغب بالعودة للعراق لا الآن ولا في المستقبل حتى البعيد، فهو كحال مبدعينا ومنصفبنا ومعتدلي هذا الشعب يرغبون بالغياب الأبدي بحثاً عن كسرة كرامة تجود بها عليهم دول اللجوء، ذلك افضل لديهم الف مرة من الكفاح لاثبات نظرياتهم داخل الوطن وكأن الأوطان التي آوتهم قد بناها الشيطان ولم تكن نتيجة كفاح آخرين سبقونا لمعرفة الآخر والحوار معه؛ ودائما كانت البدايات مضنية ولكن مناظلو تلك الأوطان قد مهدوا الأرض لأجيال تلتهم نعمت بفيض من التسامح والتعايش رفلوا به وجادوا ببعضه على مغتربينا الأعزاء المهددون أبداً بالتعامل غير السوي كونهم أولاً وأخيراً من أصول ربما تكون يوماً غير مرغوب بها.

لكن ما أثار اعجابي في الفيلم هو هذا الحل الذي طالما تحاورنا حوله وقد اقترحه هنا المخرج- المنتج بمنتهى الموضوعية والواقعية وهو انتاج افلام منخفضة الكلفة وسريعة الاعداد لا تستهلك ميزانيات ضخمة، ولا تتوسل التمويل والتعاطف الداخلي والخارجي، لكنها تفي بالغرض الثقافي والوظيفة التوثيقية للفيلم والوثائقي وتسجل حضوراً مميزاً للسينما العراقية التي نحلم بها؛ سينما طليعية تسهم في وضع الأصابع على الجراح وتقدم المعضلات الكبرى بكلمات بسيطة تماشيا مع رأي جان جاك روسو عندما عرف البلاغة على أنها قول اشياء معقدة بكلمات بسيطة.

أنا شخصيا متحمس لفيلم جمال أمين ربما أكثر من غيري كوني من الذين كلفو أنفسهم بالبحث في اسباب توقف السينما العراقية عن الانتاج، وبالبحث عن السبل المنطقية والعقلانية لاستمرار تدفق ابداع السينمائين العراقين بمواد فيلمية تصلح لتأسيس منطلقات عصرية لسينما عراقية نطمح أن نراها تمارس دورها التقويمي لمجتمع كادت ثقافته أن تتخلى عنه في أحلك الظروف التي مر بها.