MUSIC

 

 

 

  في النقد والنقد ونقد الموسيقى

 

 

النقد .. ما هو النقد؟ النقد الأدبي.. لنقد الفني.. النقد الثقافي .. النقد الروائي. وما زلنا نبحث في النقد وتاريخه بعض التعريفات للنقد ومجالاته. الإجابة عن هذا  السؤال نجده في المقالة التالية، المترجمة عن اللغة الفرنسية.

منذ وقت طويل كان النقد يمثل الكشف أو البيان بين الجمهور، وذلك لتقدير الأعمال بقيمتها الجمالية أو بميزاتها، من أجل النهوض بالمجالات الفنية، بينما الفن الحديث يصاحب الوظائف المشروعة للنقد.

فالنقاد اليوم لا يرتؤون (أي لا يبدون رأيهم). لقد أصبح النقد خاضعاً لأمزجة بعض الصحفيين المنتشرة، وبدعم الإعلام والأخبار المدعومة، وأحيانا المخصوصة، وذلك مع انطلاق الجمهرة للمجتمعات الصناعية.

في سنة 1936 أسس إميل جارامدان Ameil jaramdan بالتعاون مع بعض جهات مناسبة للدعاية والورق المقوي، كما أسس أيضا داخل المجلات وفي حلقات نقاش في النقد الفني أكثر من بهو، تحت اسم بودلير Baudelaire يرتاده مجموعة من النقاد، أغلبهم يملكون كفاءة عالية في الآراء النقدية. ومن جهة أخرى تحرك النشاط النقدي للصحفيين مع الإذاعات المسموعة، ومع المجتمع، وخاصة مع الفن، وبداية نظام الفنون الجميلة، التي كانت في القرن التاسع عشر، وذلك لنتوء جاك رامير  jack ramiereالأسلوب التمثيلي، الذي كان يرجح من خلال الفنون الجميلة، فقد كان يوجه انتقاداته نحو التقديم – التقليد- التزوير-الايماءت، ومع ذلك لم يخفق أبداً في إحراز صورة متشابهة لشكل واحد، فالتقليد الشهير للإنتاجات الفنية البسيطة يؤكد الضرورة للبراعة التكنيكية للفنانين، وكذلك ترتيب التوافق والانسجام.

هذه الترتيبات أخضعت الأعمال الفنية إلي انسجامات دقيقة محددة، لممارسة الفنانين سواء أكانو نحاتين أم رسامين أم نقاشين، وأيضا لضمان احتمال المشاهد، واحترام الانسجام داخل السلطات أو الكنائس.

أعمال كثيرة وضعت في مواضيع، ورسامين صوروها في مشهد فني، ولكن أحياناً تكون خالية من المتعة، لذلك يجب أن يكون العرض الفني خاضعاً لمعايير وأوضاع اجتماعية، تضمن العرض. وهنا نري أن سبب الإتلاف هو أحد هذه العناصر: الأعمال الأنواع من الجنازة حتى الزينة، فالمنظور في الأعمال الفنية عامة له تأثير وبعنف. الصورة، المنظر، التطبيقات، المواد الشرعية، رسم، نحت..إلخ .. الانفصال داخل الفن ليس بفن.

بعد هذا التقديم السريع لبعض الفنون دعونا نتعرف علي النقد. إثر تصادم الأمواج الفنية، وبعد انهيار الحركة التمثيلية والتصويرية، تميزت الحركة الفنية بالجمال الفني، وكان النقد الفني بتأثيره الكبير يحدث ضجيجاً وتحدث منافسات، فكانت الأيام أكثر نشاطاً. مواجهة الأسلوب الجديد للفن بأفكار غالبا ما تكون فوضوية: فأولاً إذا قام النقد علي الخطأ، أي الحكم بدون عدل. ثانياً النقد يعني أصل حكم أو تقييم لمصاحبة الحركة الفنية، وفي تداول حال بحال. في الأعمال والممارسة الجديدة لأحد المفاهيم، وإحدي الرؤى الفنية، فهذه انتقاداءت أكثر إنتاجاً وقيمة، وهي التي تؤكد الفن بمزاولته وإنتاجه.

كانت هذه فكرة عن النقد الفني بصفة عامة، ومن هنا نتأكد أن النقد الفني بدأ فعلياً في القرن التاسع عشر، حسب ما تقوله مجلة ايفن الفرنسية. ومن ضمن مواضيع النقد اخترنا في هذه الحلقة النقد الموسيقي:

النقد الموسيقي هو نشاط أسس وأقيم ليضع وينشر ويتوسع ويوزع الآراء علي الأعمال الموسيقية، فالشخص الذي يزاول هذا النقد يسمي ناقداً موسيقياً.. فالنقد يمكن أن يمارس علي أجزاء، ولكن عليه أن يوضح بالأخص التغييرات في مشهد فني أو أوبرا أو باليه أو عرض موسيقي أو تسجيلات صوت. النقد الموسيقي هو عمل وتخصص سواء أكان في الصحافة المكتوبة أم علي الراديو وعلي التلفزيون، وحالياً علي الانترنت.

هذا تعريف بسيط للنقد الموسيقي. وسنعرف علي مراحله ومتي بدأ من خلال هذه الدراسة، ولنأخذ بإيجاز تاريخ النقد الموسيقي.

مراحل النقد الموسيقي:

 كان النقد الموسيقي منتشراً مع النقد الأدبي والنقد الفني، وفي نفس الوقت الصحافة في القرن الثامن عشر. في تلك الفترة اجتهد النقد الموسيقي جوهرياً في الأوبرا والعروض الموسيقية، فتجلي وظهر في مراحل بمصنفات إجرائية ثقافية، فقد كان النقاد في تلك الفترة من العامة، من بشر مثقفين، ولكن ليس لديهم خبرة في التأليف الموسيقي، فالصحف الأولى الخاصة بالموسيقي بدأت بالظهور في ألمانيا بميلاد الجامين aljemeine، وموزيكاليك زينونج musikaliche zeitumg. في سنة 1798 في فرنسا هناك حلمين حاولوا في بداية القرن التاسع عشر انشارهم، ولكن بدون صدي كبير، فأوقفوا بسرعة بداية الحلم الأول، والتي كانت أكثر ثباتاً، وقد ولدت سنة 1827 تحت اسم الحلم الموسيقي، وبعدها تبعتها ألقاب أخري. ورويداً رويداً بدأ النقد الموسيقي بالانتشار وبالتساوي في بقية أوروبا. أما التغير الآخر فقد أظهر القياس مولفين موسيقيين، أبحاث موسيقية، مؤدين، مترجمين. وفي كل الحالات البشرية تبقى الموسيقي مدروسة دراسة دقيقة، ويثبت النقد الموسيقي أهميته لدى الأدباء والمثقفين، حيث ينتشر الجدال الفني في خصوصية المؤلف الموسيقي وانيير Wagner، وخصوصاً في مدرسة فيينا أو في الموسيقي المعاصرة.

الحديث في الموسيقي لا ينتهي، والدراسات في هذا التخصص الموسيقي كثيرة، فالموسيقي كلمة تعني الكثير، فهناك: الموسيقي الشعبية، الموسيقي الفلكلورية، الموسيقي الكلاسيكية، الموسيقي الرومانسية، موسيقي الجاز، وغيرها كثير.

 فكان هذا تعريف عن تاريخ النقد الموسيقي والذي كما ذكرنا بداء في القرن الثامن عشر حسب ما أفادت به المجلة الفرنسية

والآن لنتعرف علي النقد الموسيقي اليوم :

فالنقد الموسيقي اليوم يمارس ويزاول علي كل أنواع الموسيقي مثل الموسيقي الكلاسيكية الموسيقي التقليدية الجاز التشكيلات الموسيقية الروك وقدمت هذه الانتقادات في الموسيقي من خلال الصحافة العامة والصحافة المحلية اليومية، وعممت أيضاً من خلال الصحافة العامة والصحافة المحلية اليومية، وعممت أيضاً في الصحف الخاصة بمجالات أخري، رغم أنها لا تعنى بالموسيقي، مثل صحيفة الطب اليومية وغيرها من الصحف. كما يقدم النقد الموسيقي وينشر في الصحف الموسيقية بفرنسا.

وقد كان النقاد من الصحافيين ومن الحرفيين الموسيقيين، وفي الغالب يكونون باحثين في علوم الموسيقي أو طلبة في التخصص الموسيقي، فالموسيقي فن يعني العلم والثقة والإيمان بالفن. والموسيقي فن عرفته الإنسانية في أغاني ساحرة.. في الرقصات الشعائرية.. وهي علم يدرس بقوانين وتنظيمات رياضية وعلمية. وفي كل المجتمعات توجد موسيقي قديمة وفلوكلور، بجانب الموسيقي التي تعلم بالمدارس والمعاهد الفنية، التي عرفت طبيعتها وعموميتها، فالموسيقي نحن نتقمصها.. ونحن ننقلها، ونحن نعكسها، ونحن نجعلها حلماً. وكما قال أفلاطون: "الموسيقي تعطي روحاً ونفساً لقلوبنا .. هي أجنحة لأفكارنا، وانطلاق للخيال".

وكان نقاد الموسيقي من المتخصصين في علوم الموسيقي، وكانوا يزاولونها حتى يستطيعوا أن ينتقدوها بحرفيتها نقداً بناءً وصحيحاً مبنياً علي دراسة ومعرفة بخصوصية هذا الفن الرائع. ولنتطلع إلى بعض أكبر شخصيات في الموسيقي، مثل:

فرانسوا جوزيف فيتيس: مؤلف وناقد موسيقي بلجيكي، ولد في موي في 25/3/1784 وتوفي في بروكسل في 26/3/1871، بعد إنهاء دراسته الموسيقية ووصوله لمون بعد المعهد الموسيقي في باريس، ونال الجائزة الثانية لمسابقة المعهد. شغل منصباً في العلوم الموسيقية في شمال فرنسا، وخاصة في دواي في سنة 1821 في المعهد الموسيقي بباريس لعلوم الارمونيكا وعلم الإيقاع والتكوين. وفي 1826 أنشأ مكتبة موسيقية. وبعد أن حرر وألف العناوين لأقلام أخري، قرر في 1827 تأسيس مجلة الحلم الموسيقي الأسبوعية، التي أصدر منها أكثر من ألف نسخة تقريباً، فقد كان يستقبل في كل الأوقات إسهامات ومشاركات من مختلف المولفين. وأمام ثقل هذه المهمة والعمل والتي تم جمعه في المعهد الفني.

وفي سنة 1834 قبل في صحيفة موسيقى باريس كمؤسس حلم الموسيقي بباريس.

هناك أيضا روبرت شومان: ولد في 8/6/1810 بمدينة بون الألمانية، وتوفي في 29/7/1856، وهو مؤلف موسيقي ألماني، اعتبره النقاد من أهم المؤلفين الموسيقيين في الحركة الألمانية الرومانسية، وذاعت شهرته بفضل مؤلفاته الرائعة علي البيانو..

فرنسوا هنري: مؤلف وناقد موسيقي وكاتب للموسيقي، توفي في 1 /12/1857.

هكتور يبرليوز: ولد سنة 1803، وتوفي في باريس 1869، وهو مؤلف موسيقي تميز بقوة الحس الدراماتيكي والنصر الأوركسترالي. ألف العديد من الكتابات الموسيقي. من أهم أعماله لعنة فاوست، وهي مقتبسة عن قصة الكاتب الألماني غوته السيمفونية الخيالية، وألف أيضاً قداس الموت (روميو وجولييت) للكاتب ويليام شكسبير، وطفولة المسيح، الطراوديين (نسبة إلي طراودة).

 

 

 

هذه المقالة مترجمة عن اللغة الفرنسية، لدراسة حول النقد الموسيقي، نشرت بمجلة الفن الفرنسي، بقلم كلير دايفيدClare David

 

 

 

 

 

أوركسترا الشرق وقفة استماع لروح الشرق

جريدة الزمان

نزار الراوي

 منذ زمن وأنا أتطلع للكتابة عن الموسيقى، ذلك الفن الذي يدعوه كاندنسكي "غاية الفنون ومنتهاها الذي تسعى للوصل اليه"، مما دفعني لسنوات طوال لالتهام أغلب ما تقع عليه عيني من كتب ومقالات ودراسات تهتم بالموسيقى وتنظر لها، وقد تساءلت طويلاً عن أسباب نُدرة ما يُكتب عن الموسيقى في اللغة العربية، نعم ان للموسيقى لغتها وعلومها المستقلة، لكن لا يوجد ما يبرر هذه القطيعة الثقافية (النظرية) معها، فمن شبه المستحيل أن تقرأ فيما تتناقله المطبوعات العربية عن الموسيقى غير الأخبار والتنويهات السطحية وبعض التعليقات الاعلامية المتعجلة، وكاننا اذا تحدثنا عن الموسيقى فاننا نختبر طلسماً، فمنذ كتاب (الموسيقى الكبير) لأبي نصر الفارابي والذي يُعد من أهم مؤلفات علم الموسيقى في العالم –آنذاك- لم تتصد  الثقافة العربية في معظم خطابها الثقافي المقروء الى الموسيقى الا نادراً وغالباً ما كان التعامل مع الموسيقى تعاملاً تطبيقياً يدور حول الاداء العملي، وكأن الموسيقى حرفة للمحترفين وليست فناً واسعاً وكبيراً يتعامل معه الجميع مما يستدعي تناوله نظرياً على نطاق أوسع.

 ولأني أزعم وأتحرى المتابعة الدائمة لأهم ما تقدمه الموسيقى عموماً والموسيقى العربية على وجه الخصوص، فأنا من أشد المتابعين -غير الموسيقيين- لطروحات العديد من الفنانين العرب ومنهم الفنان نصير شمة؛ مع أن طابع التقنية العالية يسود معظم مؤلفاته، ذلك الطابع الذي صار سمةً بارزةً لهذا العازف والملحن المتميز، فهو منذ بداياته كان مختلفاً جداً من حيث تقنيات العزف التي طور قسماً منها لتكون له ولمعزوفاته ما يشبه الهوية الفنية، هذا بالطبع اثر ويؤثر كثيراً على الايحاء التخيلي في تلك المعزوفات فيحيلها الى نوع من  الحدة والوضوح الساطع -في كثير من الأحيان- على حساب استدعاء الصور الخيالية المنفلتة من هيمنة التقرير والتصوير. 

 بخلاف معزوفاته يمتاز نصير شمة بمشروعه الثقافي الطموح، حيث كان أول من أسس للعود بيتاً وقام بنشر فروع لهذا البيت الجميل في مختلف العواصم العربية، ساعياً لنشر ثقافة الموسيقى وتعليم العزف وتطوير مهارات العازفين على العود وغيره من الآلات في بعض الأحيان، وهو اليوم يقدم مشروعاً كبيراً واستثنائياً آخر الا وهو (أوركسترا الشرق) التي تضم أكثر من ستين عازفاً من مختلف دول الشرق من الصين الى اليونان مروراً بالهند وباكستان ودول أواسط آسيا وايران والدول العربية، هذه الأوركسترا قدمت عملها الأول الذي جاء بأسم (حرير) في حفلة أداء كبيرة في مهرجان أبو ظبي الخامس للموسيقى في 2008، ثم عادت الاوركسترا لتقدم ذات العمل (حرير) في مسقط أيلول سبتمبر 2010.

 أن فكرة انشاء أوركسترا شرقية تقوم وتعتمد على الآلات الشرقية لهي بحد ذاتها فكرة رائدة تؤسس لمشروع فني- ثقافي من النوع الذي نحتاج اليه لتطوير ملفنا الثقافي باضافة مشاريع ذات آفاق كبيرة، حيث أننا في الشرق عموماً وفي المنطقة العربية على وجه التحديد لم نعد نؤمن –كمثقفين- بالعمل الجماعي أو نكاد، ونميل –غالباً- الى الانزواء والفردية في معظم مشاريعنا الثقافية التي بات العديد منها يعاني التقزم في زمن المشاريع الكبرى التي تحتفي بها ثقافات العالم، وهذا ما كان يدعوني للقول في عدة مناسبات أن مثقفينا بعافية وثقافتنا تعاني الهرم وتهديدات الانقراض في الكثير من أجناسها الفنية، حيث أن الثقافة ليست المثقفين بل هي المؤسسات والمشاريع والمشيدات وبالتالي هي القدرة الميدانية على الانتاج والتسويق الثقافي، فيما عدا ذلك لا يمكن جمع المشاريع الفردية ووضعها تحت أي بند تنظيمي أو عنوان ثقافي لأنها محض مشاريع شخصية منهكة في غالبها الأعم يُعاني منتجوها من الانزواء والعزلة وضعف الحيلة ونقص حاد في القدرة على المنافسة والظهور في عالم يتبنى الثقافة من خلال مؤسسات عملاقة تُنشيء وتدرب وتنتج وتطور وتسوق وتؤرشف.

وبعيداً عن العموميات سأسعى في هذا المقال للتعريف بالعمل الموسيقي (حرير) والذي تكون من تسع مقطوعات موسيقية سأتناولها بالتفصيل، حيث أني تواجدت ضمن الحاضرين في ثاني تجربة أداء قامت بها أوركسترا الشرق على مسرح قصر البستان في مسقط ضمن برنامج طويل وممتلئ أعدته دار الأوبرا السلطانية في سلطنة عُمان فيما يشبه التمهيد لافتتاحها رسمياً في العام المقبل.

 

وتعليقاً على ماجاء في حريرأقول:

المقطوعة الأولى :الافتتاحية (تحية)

 ربما من الحسن أن أبدأ بالأسم الذي حملته المقطوعة وهو (Salute) التي تعني تحية لكنها ترتبط أكثر بالاستخدام العسكري لكلمة تحية أوما يوحي بالتعظيم والتفخيم على عكس كلمة (greeting) التي ترتبط بالهدوء والسلام أكثر.

جاءت المقطوعة التي هي من مقام الكرد متسارعة وبايقاعات قوية، وقد افتتحت بوتريات تشبه الضربات المفاجئة للجمهور يتوسطها لاحقاً انفراد لآلة الناي يحيلك الى الشرق لا محالة بكل سحره وشجنه، ومن ثم يليها انحدار نغم القانون العريق الذي كان اشبه بنافورة ماء عذب، تعود الضربات الأربع بمجوع الآلات لتشد الجمهور الى ما يحاكي قليلاً الوقع العسكري المهيب، بعد تكرارين أو ثلاث للجملة الموسيقية تتبع تناغمات الآلات تقدمها الناي لتعزف بما يجعل المستمع يتمايل طرباً وانسجاماً مع تخريجات موسيقية منمقة ورشيقة تألفها الأذن بسرعة.

ثم فجأة يتسارع الايقاع ويقوى ليختم بذات الضربات الأربع التي تتكرر مراراً الى أن تستعيد روحية المقطوعة الأصلية.

لقد ضمن المؤلف هذه المقطوعة – برأيي- موجز جماليات الموسيقى الشرقية عندما تتسارع وتعلو، كأنه يريد ان يذكر بأن موسيقى الشرق ليست هادئة ومنسابة دائماً كما البيئة الشرقية المسالمة، فهي تقوى أحياناً وتشتد لتتيح للمتلقي التمعن في قوة الشرق المضافة لجماله، وربما أراد المؤلف أن يكمل للأوركسترا معناها من حيث قدرة موسيقاها على مجاراة فخامة الموسيقى الأوكسترالية العالمية.

لقد الهبت الموسيقى الجامحة في هذه المقطوعة حماس الجمهور الذي استمع اليها بخشوع وصفق لها طويلاً.

 

المقطوعة الثانية: زمن النهاوند

وقد ترجم الاسم الى (Nahawand Era) وهنا تأتي زمن بحسب الترجمة بالمعنى التاريخي وكأن المؤلف يعني (زمان النهاوند) وهو الاسم الأدق برأيي، تفتح القطعة بانسيابية نغمية تشتهر بها كلاسيكيات الموسيقى العربية (أيام الطقاطيق)، وهي كما يشير اسمها من مقام النهاوند الذي يتصف بالعذوبة والسلاسة والعمق، تأتي خلال المقطوعة تنويعات موسيقية تشير بنقاء الى الاستخدامات العربية السورية والمصرية – تحديداً- لسلم مقام النهاوند، مما يحيل المستمع لأجواء الطرب الأصيل الذي سبق عصر (الكي بورد) والتشوهات التي آلت اليها معظم الحان مصر والشام لاحقاً.

تمتاز هذه المقطوعة بروحية عالية فتشعرك أحياناً أن العازفين قد ترعرعوا على هذا المقام ونهلوا منه الى ان شبعوا، لاحقاً في ما بعد المنتصف تبدأ المقطوعة بالتسارع والارتفاع بقيادة ألات العود والسنطور يتلوها مجموعة النايات والايقاعات الموحدة، ومن ثم يعود الجميع للجملة الموسيقية الأولى بعذوبة لحنية نادرة في حين يبرز قليلاً العود الرخيم ويتلاشى ليسمح بالمقطوعة بالانتهاء بهدوء كما بدأت.

 

المقطوعة الثالثة: الشيخ وأنا

يروي نصير شمة مؤلف المقطوعة أنه كتبها بعد الاستماع لتسجيلات الشيخ مصطفى اسماعيل شيخ قراء المحفل المصري، وأنه –والكلام لنصير- لم يغير بها حرفاً واحداً منذ كتبها أول مرة عندما كان منفعلاً بما سمع من قراءات الشيخ، وهنا أنوه بالنقص الحاد الذي يعيشه معظم الموسيقيين العرب بعدم استماعهم بتمعن لقراءات القرآن بأصوات المشايخ الكبار الذين أتقنوا المقامات الاصلية -الرئيسية والفرعية- وأجادوا توظيفها نغمياً في قراءاتهم، وجعلوها في خدمة السياق اللغوي للقرآن الكريم مما يعمق لدى المستمع المعاني التي يتحدث عنها النص المقدس، وقد اشتغلت قرائح هؤلاء زمناً طويلاً على النغم الشرقي مما أدى للحفاظ على المقامات وتحويلاتها ولهم فيها اجتهادات جزئية لا غنى عنها، حتى أن أحد أصدقائي المختصين والمتابعين لأدق تفاصيل القراءات المصرية نقل لي أن الشيخ مصطفى اسماعيل لما سمع مقدمة أغنية (هو صحيح الهوى غلاب) توجه الى ملحنها الشيخ زكريا أحمد بعتاب جميل يسأله (بذمتك اليست هذه المقدمة لي؟؟) وكانت من مقام الصبا وكان الشيخ ويرمي الى أنها تقوم على تحويلة نغمية في الصبا كان هو أول من قال بها، فأجابه زكريا أحمد بدبلوماسية بها الكثير من الود والعرفان (واحنا لنا بركة الا انت يا سيدنا الشيخ؟)

وعوداً على مقطوعة (الشيخ وأنا) للمؤلف نصير شمة أقول أنها موسيقياً تُصنف أنها بمجملها من مقام حجاز كار (هزام)، وهي تبتدي بوقع دفوف يشبه ما يُعزف في موالد مصر القديمة، ثم تتسلق باقي الآلات بخفة ورشاقة لتعطي مقطعاً موسيقياً متكاملا يتراجع شيئاً فشيئاً ليقوده العود على مقام الحجاز الأصلي وصولاً الى منطقة لحنية متسارعة قليلاً، ومن ثم يرجع ضرب الدفوف ليعلو وهكذا تتناوب المجموعة مجتمعة ثم العود المتقدم ومن بعده النايات شبه المنفردة ثم الجموعة، الى أن يعلو صوت الناي حجازاً ليذكر السامعين بالأذان على الطريقة المصرية المحببة للاذن العربية، تتلوه الايقاعات على وقع حداء الأبل في الصحراء.

منتهى الجمال النغمي ومنتهى الرقة الانسياب الذي يوصل الى انفراد مطلق للعود -عود نصير- الذي يتميز بدقة النغمة وحدتها وتسارع انتقالاته الوترية بتقاسيم حجازكار تخلب الالباب من بعده ينفرد عازف (الليرة) اليوناني وهي آلة رخيمة الصوت تشبه الربابة لكها أكبر وأضخم ونغماتها أوسع وأعمق بكثير فيقسم العازف على ليرته بما يستدعي نوعاً من  مشاعر الحزن والشجن أقرب للوجد، ومن ثم ينفرد القانون ومن بعده العود الرخيم للعازف المصري الذي مع الأسف لا نجد اسمه أو أسماء زملائه في أي من وثائق الأمسية – ربما لأن عددهم كبير- مع أنهم جميعاً يستحقون أن يشار لهم بالاسماء لما أبدعوا؛ هكذا تستمر الانفرادت الجميلة الى أن تجتمع الآلات شيئاً فشيئاً بهدوء يتلوه ارتفاع حاد في النغم والايقاعات والآلات مجتمعة في مقطع موسيقى راقص لم تكن لتتناسب مع سابقتها أو مع موضوع القطعة الذي أشار اليه المؤلف قبل البدء، وكأن المقطع الأخير جاء مضافاً غير معني  بسابقاته، أنا شخصياً لم أستحسن هذا الارتفاع والتسارع غير المبرر والذي أختتمت به المقطوعة.

 

المقطوعة الرابعة: أرض الاسراء

وهي من مقام الكرد، تُفتتح بانفراد لعود نصير شمة يتلوه ترنيمة موسيقية متماسكة تتعالى ببطء تُشعر السامع بحنين كبير خصوصاً قبل أن يتدخل العود ليقطعها بحمى وترية فائقة السرعة تنتهي لتستعيد الموسيقى انسيابها، عموماً العود هو قائد هذه المقطوعة مما يجعلني أعتقد نها كُتبت في الأصل لآلة العود منفرداً، وهذا لا يمنع بروز بعض الآلات من حين لآخر داخل المقطوعة كتقدم القانون مرة والناي مرتين أو ثلاث، وربما توحي الانحدارات النغمية السريعة في بعض أجزاء المقطوعة بأجواء الفرح الذي أظنه مقصوداً لتسريب نوعاً من التفاؤل الى المتلقي خصوصاً وأن هذه المقطوعة مهداة -كما يتضح من العنوان- الى أرض الأسراء في بيت المقدس التي تحمل كثيراً من البشارات الموعودة لمعظم مستمعي موسيقى أوركستر الشرق، وهي ذات الروحية المتفائلة التي تنتهي بها المقطوعة وهي خير نهاية للموضوع المموسق بمنتهى الجدية والاحتراف.

 

المقطوعة الخامسة: مقام عراقي غناء الفنان أنور أبو دراغ

كانت من مقام الهاميون المتفرع من الحجاز، وقد أسماها المنظمون خطًأ  مقام فوق النخل وهي ليست الا أغنية من الأغاني التي يمكن اداؤها على هذا المقام، وقد تم استحضار هذه الأغنية من التراث العراقي وهي من ألحان الموسيقار الكبير الملا عثمان الموصلي، وقد خلد الموسيقيون والمغنون هذه الأغنية القديمة لما لها من جمال ولما للحنها من عذوبة بالغة، وأنا هنا أختلف تماماً مع التفسير الشائع الذي رواه الفنان نصير شمة لمعنى مطلع الأغنية (فوق النخل فوق) حيث قال أن المقصود هو (فوق لنا خِل) بكسر الخاء كناية عن حب الرب عز وجل في عليائه، وحقيقةً أقول أني قد سمعت هذا التأويل اللغوي -غير الدقيق- أكثر من مرة من مطربين وفنانين عراقيين أرادو ربما تبسيط المعنى للسامع العربي الذي ربما يستهجن كيف يكون لنا حبيب فوق النخيل، والمقصود ببساطه بحسب اللهجة البغدادية الدارجة الى اليوم هو فوق النخيل أي بعد النخيل بمسافة وهذا أنسب من تفسيراتهم التي لا تتسق والشطر الثاني من البيت حيث يقول (مدري لمع خده مدري الكمر فوق) ثم الاضافة الأنكى وهي قفلة الأغنية (والله ماريده بالاني بلوة) وهذا ما لايمكن أن ينطبق على حب العبد لربه سبحانه وتعالى بأي من الأحوال.

وعوداً على المقطوعة الغنائية المفعمة بالحنين والجمال والتي أداها الفنان أنور أبو دراغ الذي قدمه نصير شمة بأنه واحد من أروع الأصوات التي أدت المقام العراقي أقول، لقد عزفت أوركسترا الشرق بآلاتها العديدة الصينية والاذربيجانية والافغانية والتركية والعربية واليونانية والهندية مطلع مقام الهاميون كما تعزف أي من فرق المقام العراقي المعروفة بـ (الجالغي البغدادي)، وهذا بالطبع يعود لسببين واضحين؛ أولهما مقدرة قائد الفرقة والمغني معاً على ايصال المقام بأدق نغماته الى العازفين أثناء التمارين، وثانيهما العُمق والاتساع النغمي لهذا المقام ومقدرته على التأثير في العازفين المحترفين، كان ذلك جلياً عندما استمعنا لتدخل جميل لآلة (السرانكي) الهندية مع آمانات الفنان أبو دراغ الذي قاد النغم في المقطوعة وصولاً لأداء موسيقي مشبع بروحية المقام العراقي، وهنا نصل الى الحديث عن الغناء في هذه المقطوعة والذي كان مفاجأة حقيقية للجمهور حيث لم يتوقع أحد أن يستمع لغناء وسط أوركسترا موسيقية والأكثر من ذلك أن يستمع لمقام عراقي طالما خلب الآذان والألباب، ومما أثار الدهشة المصحوبة بالفرح الشديد هو الاستماع الى ذلك الصوت الشجي من تلك الحنجرة التي تتصف بالاتساع والقوة والمقدرة الأدائية التي تنم عن علم ودراية بأصول اداء المقام، كيف لا؟ وهو الاستاذ صاحب المدرسة الوحيدة في أوربا التي تختص بتعليم الموسيقى الشرقية.

"آمانات"  أبو دراغ كانت نداءات عالية جداً لتدارك موسيقى الشرق ومقاماته الفريدة وانقاذها من الزوال وتسليط الضوء عليها وانهاء حالة الانزواء والتغييب الذي تعيشه تلك الانغام الشجية.

 حقاً لقد كان لصوت أنور أبو دراغ تأثير ساحر على الجمهور، حيث إحتشدت في قراءته لمقام الهاميون تصرفات جميلة تناسب المعنى للبيتين الذين سبقا الأغنية (البستة) مما زاد في انجذاب الجمهور له ولأدائه الذي انتهى بحماس كبير وتصفيق حاد من الجمهور تحية له ولنصير شمة الذي أحسن الأختيار وراهن فكسب الرهان.

 

المقطوعة السادسة: جدارية الحياة

وهي من مقام النهاوند وامتازت بالرشاقة والخفة والتنقل غير المتكلف من نغم الى نغم خلال النهاوند تاركة المستمعين ينهلون من جماليات النهاوند، وقد خلت من الانفرادات الموسيقية تقريباً، في حين تصاعدت الايقاع في منتصفها لتقترب من التطريب الراقص، ولم يتوقف القانون عن قيادة المنتصف الى أن زاولت جميع الآلات مهامها الموسيقية بانسيابية تشهد للآلة الشرقية بالمقدرة على محاكاة رشاقة الموسيقى الأوربية خصوصاً عندما جنح اللحن الى هارموني موسيقي يحيل الى

.موشحات الأندلس ويذكر قليلاً بالفالس ولكن هذه المرة بآلات شرقية وبروحية النهاوند.

 

 المقطوعة السابعة: مولانا جلال الدين الرومي، قامت المقطوعة في تقاسيمها على مقام البيات الذي يمتاز بالأناقة والعمق، وقد أحسن المؤلف نصير شمة بأن عرج

في أول أعمال أوركسترا الشرق على هذا الشاعر والمتصوف والمفكر الاستثنائي، والذي يُعد من كبار دعاة التسامح بين الاديان، والذي أسس أتباعه من بعده الطريقة المولوية الشهيرة ملتفين حول ولده سلطان بعد وفاته 1273 م، وهي طريقة صوفية أشتهرت برقصتها الروحية حيث يقوم الراقصون بالدوران حول أنفسهم كمركز دائرة لزمن طويل فيندمجون في مشاعر روحية سامية ترقى بنفوسهم إلى مرتبة الصفاء الروحى فيتخلصون من المشاعر السلبية ويستغرقون في وجد كامل يبعدهم عن العالم المادي ويأخذهم إلى الوجود الإلهي كما يرون، وقد تم تطعيم عزف هذه المقطوعة براقص مصري من مجيدي هذه الرقصة التي تُعرف في مصر بـ (رقصة التنورة) والتي تنتشر اليوم في مصر كفلكلور شعبي، فأبهر الراقص الجمهور الذي تفاعل مع المشهد بتأثير واضح للموسيقى التي طابقت الى حد بعيد التراث المولوي بحذق ومهارة معتمدة على النايات وضرب الدفوف بتميز نغمي حقيقي.

 

المقطوعة الثامنة: بنفسج الأنامل

التي عاد بها المؤلف لاستخدام مقام الكورد وهي برأيي لم تكن على مستوى سابقاتها من حيث افتقادها للربط العضوي بين جملها اللحنية التي شابهت كثيراً الحان الأغاني المصرية التي تنتسب لفترة العصر الذهبي للاغنية هناك في خمسينات وستينات القرن الماضي، فغلب على المقطوعة التحويلات الحادة التي تنتج عما يشبه التوقفات المؤقتة ومن ثمة التحول المفاجئ من ثيمة لحنية لأخرى، عموماً كانت بنسفج الأنامل هي الأكثر غموضاً والأقل انسياباً كأسمها الغريب، وقد توسطتها جمل موسيقية تشبه الى حد بعيد المارش العسكري أو افتتاحيات نشرات الأخبار، عدا ذلك كانت القطعة مجزئة على نحو شامل، قد يناسب كثيراً من جملها أن تكون أساساً لألحان غانئية أكثر مما يناسب معزوفات أوركسترالية.

 

المقطوعة التاسعة والأخيرة: على جناح فراشة

وهي من مقام العجم وهي أسرع المعزوفات في هذا العمل على الاطلاق، ذلك بما يناسب تسميتها التي توحي بالسرعة والخفة، وهي مقطوعة تقنية تماماً؛ ألفها نصير شمة بتأثير واضح من قدراته التقنية في العزف، وهي حقاً مناسبة لاختتام عرض موسيقي مميز لاوركسترا شرقية هي الأولى من نوعها، غير أني لم أحبذ مقطع الفالس الواضح في منتصفها ولا أعرف مصدراً للمعلومة التي نوه بها المؤلف بالمعلومة في الحفل عن أن الفالس من أصل عربي مستوحى من حداء الأبل، ولو لا ذلك المقطع الصغير نسبياً لكانت هذه المقطوعة هي خلاصة الرهان التقني الأدائي الذي خاضه العازفون من شتى دول الشرق ليثبتوا للسامعين مقدرة الآلات الشرقية على التآلف في جمل لحنية سريعة تستدعي الكثير من المران.

على العموم كان الاستماع لمقطوعات حرير تجربة مثيرة لمعظم من حضر الأداء، وقد شهد الجميع للمؤلف والقائد بحسن القيادة وحسن الاختيار لنخبة من أفضل عازفي الشرق، كان لدى العديد من الحاضرين أمنيات تتعلق برؤية وسماع أعمال مستقبلية لهذه الاوركسترا الجديدة التي تعد بالكثير.

 وعوداً على المشروع ككل مشروع تأسيس فرقة موسيقية بهذا الحجم (أوركسترا الشرق) أقول أنني أتمنى لها من قلبي الاستمرار والظهور أكثر فأكثر، كما أتمنى للمؤسسات العربية الكبرى سواء كانت مهرجانات أم مؤسسات اعلامية أو ثقافية أم جامعات أم غير ذلك أن تنتبه لهذا المشروع وتقدم له كل ما يستحق ويستأهل من الدعم والرعاية والاهتمام.

وأشد على يد الفنان المبدع نصير شمة لما بذل من جهد استثنائي في تأسيس هذه الفرقة –المشروع وأتمنى له المزيد من الحيوية التي لا تنقصه ولا تنقص طموحاته الثقافية النبيلة.